الدم والأيديولوجيا

نيوزبت2 يناير 2014آخر تحديث :
حسن حنفي
حسن حنفي

كان الشائع هو «العلم والأيديولوجيا»، «الثقافة والأيديولوجيا»، «الدين والأيديولوجيا». سادت هذه القرائن فى القرن التاسع عشر. ثم استمرت أثناء حركات التحرر الوطنى فى العالم الثالث فى منتصف القرن العشرين حتى برأت منها الثقافة السياسية لصالح العولمة فى القرن الواحد والعشرين.

فما تركه الغرب أخذناه. فقد أخذ الغرب اليمينى الأيديولوجيا بدلا من الدين. وأخذ الغرب اليسارى الثورة بدلا من الدين، وأصبحت الأيديولوجيا والثورة أهم إفرازات الثورة الفرنسية. الأيديولوجيا عند اليمين، والثورة عند اليسار. وانتقلت المعركة عندنا فى الستينيات. البعض يقول بالأيديولوجيا وهو اليسار والبعض الآخر يقول بالإصلاح أو الدين المستنير وهو اليمين. والثورة لم تؤثر لأنها كانت ثورة النخبة أو ثورة الضباط الأحرار. ونشأت صراعات ثلاثة بين الدين والثورة والأيديولوجيا. الدين ظل فى جعبة اليمينى حتى لو استنار. والثورة فى يد الليبراليين خوفا من الماركسية. والأيديولوجيا فى حضن الماركسيين وتعنى الماركسية أو الشيوعية.

والدم الذى يسيل هو الحياة، الذى ينبثق من ينابيع الأوردة والشرايين، والنفس والرئتين، ونبضات القلب. وهو المقصد الأول من مقاصد الشريعة عند الإسلاميين قبل العقل والثروة العامة والكرامة الوطنية. وهى التى من أجلها جُعل القصاص أحد الأحكام الشرعية. هذا الدم هو الذى يسير فى الطرقات وفى مدرجات الجامعات. هو الذى يسيل فى المركبات العامة وعلى واجهات المنازل والمحال، وكأنه لا قيمة له. والدم لا هو دين ولا ثورة ولا أيديولوجيا. لا يسعى إلى سلطة. ولا يصارع من أجل منصب. ولا هو مسلم أو قبطى.

والدين، لو عرف المتدينون هو أيديولوجيا أى عقيدة وشريعة. والعقيدة تصورات نظرية لا تلزم أحدا. إنما المهم هو الشريعة. فالدين نظام الحياة، نظام للفرد والجماعة. يرفع شعار «تطبيق الشريعة الإسلامية». هو نظام سياسى يقوم على الشورى، واجتماعى يقوم على التكافل الاجتماعى، واقتصادى أوله الزكاة، والملكية المشتركة للمصالح العامة، والتكافل الاجتماعى وحد أدنى وحد أعلى للأجور. والقطاع العام، والعمل مصدر القيمة. والأيديولجيا دين عندما يتمسك بها أصحابها كعقيدة تطبق حرفيا دون أخذ فى الاعتبار الظروف الاجتماعية المتغيرة. وهى عامة لا تختلف فى مبادئها سواء طبقت فى أوروبا أم آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية. ومن ثم عاد الدين من الوراء بعد أن كان قد تحول إلى أيديولوجيا. ولا أحد يفكر جديا فى الثورة التى تجمع بين الدين والأيديولوجيا. فالثورة لديها مبادئ عقائدية مثل الدين، وتنظيمات اجتماعية مثل الأيديولوجيا، لذلك لا يحتاج الثائر إلى أن يصارع رجل الدين أو الأيديولوجى لأنه يحتويهما فى ثورته العقائدية التنظيمية، ولا يحتاج رجل الدين إلى أن يصارع الثائر لأنه خارج الرحمة الإلهية أو أن يصارع الأيديولوجى لأنه يحمل كلاما غير مفهوم، ولغة العقائد أوضح.

والأيديولوجى أو الثائر يحتاج كل منهما إلى أن يعيش سعيدا بالفعل وليس واهما بسعادة فى عالم آخر. ويحتاج إلى أن يعيش آمنا فى مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية والإخاء. يأخذ حقوقه كما يؤدى واجباته فى عالم تضيع فيه الحقوق بالرغم من أداء الواجبات. وفى مجتمع النظام السياسى فيه ضعيف لا يستطيع الحسم فى شىء إلا الخطابة من وزير الدفاع التى تلهب مشاعر الجماهير لما لديه من مصفحات ودبابات وطائرات ومشاه أمام شعب يود الحسم. وسئم الانتظار. وملّ الخطابة وسماعها بعد أن تعود عليها فى العقود الأخيرة. ولَفَظَ الإصلاح الذى وُعِدَ به فى القرنين الأخيرين دون أن يحدث الكثير، فالثورات سريعة الإيقاع. والإصلاح بطىء. والسرعة هى التى تحدد مسار التاريخ وترتبط بيقظة الشعوب بها، ومهما علت الخطابة فإنها تطير فى الهواء إن لم يسندها تحليل فعلى للواقع المباشر. إن الأمن الذى يعتمد على السلاح وحده هو أمن زائف، لأنه يعتمد على ميزان القوى وليس على قوة الاعتقاد. أليس هذا أفضل من الاحتفال بعيد ميلاد أو وفاة كاتب أو روائى؟ فالأموات أموات ولكن القضية مع الأحياء. عند العاقل. لا يهم من يحكم. فليس من يحكم هو من يجلس فى القصر. من يحكم هو ما يستقر فى العقل من أنساق للقيم ومراعاة لها فى الواقع.

وفى نفس الوقت لا يدرك مخططو المدن مخاطر بناء المدن الجديدة على حواف العشوائيات والنجوع. فهم كمن يضع الزيت على النار. فالأحياء الجديدة تمثل رأس المال الجديد، رأس المال الذى بنى سيتى ستارز وسيتى سنتر وسبع عشرة مولا تجاريا داخل القاهرة. فإذا كانت الثورة القادمة ثورة الجياع فإن عشرين مليونا من المعدمين سيقذفون على هذه المدن الجديدة ويحتلونها بأجسادهم التى لم تعرف النوم أو الطعام أو الراحة. وتكون الصورة مثل المرأة التى تفتح سجن الباستيل. كصورة رمزية للثورة الفرنسية. إذا كان عشرون مليونا من المصريين يعيشون فى العشوائيات، وكان أربعون مليونا منهم يعيشون تحت خط الفقر فإن الثورة القادمة مثل ثورة 1952 لإعادة تحديد الملكية، وإعادة تحديد الدخل، فالثورة الاجتماعية تسبق الثورة السياسية، والثورة الاجتماعية تتحدد برغيف الخبز، وغرفة السكن، ومياه الشرب، والصرف الصحى، والعمل اللائق، والملبس النظيف حتى يكون للمواطن كرامة. ومتى كانت له كرامة أصبحت له حرية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

عاجل

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق